علي عنتر.. الثائر قبل الثورة
في أحد الكهوف على سفح قرية صغيرة في محافظة (الضالع) اسمُها (الخريبة) لجأت (فاطمةُ) لتضع مولودَها (علي)، وذلك في ربيع عام 1937م ليصبح بعدها اسمًا بطوليًّا لا يُذكَر أكتوبرُ المجيدُ إلّا وكان رمزًا بارزًا من رموزه.
هذا الصبي الذي وُلِد ولادةَ الأسود لم يكن ابنًا لأبٍ اسمُه "عنتر" كما قد يبدو للبعض، ولكن "عنتر" لقبٌ أطلِق عليه لشدة استبساله وشجاعته في مقارعة المحتل البريطاني.
تلقى "علي عنتر" مبادئ القراءة والكتابة في كُتّاب قريته، ثم رحل إلى الكويت طلبًا للرزق.. فعمل فيها، وانضم إلى حركة القوميين العرب، وفي سنة 1960م، عاد إلى بلده مشاركًا في تأسيس حركة القوميين العرب في محافظة (الضالع)، وأصبح المسؤول الأول عنها.
عند انفجار ثورة الـ 26 من سبتمبر عام 1962م في شمال الوطن واشتداد الهجمات المضادة في محاولة يائسةٍ لوأد الثورة الوليدة برزت الضرورة الملحّة للإسهام في الدفاع عن الثورة أمام عنتر ورفاقه باعتبارها أهم وأنبل مهمة نضالية تقع على عاتق المناضلين الشرفاء، وإزاء هذه المستجدات الجديدة، وبرئاسة عنتر عَقد أبرزُ قادةِ حركة القوميين العرب في (الضالع) اجتماعهم في منزل الشهيد المناضل (علي شائع هادي) حيث تم في الاجتماع تدارس خطةٍ للإسهام المباشر في الدفاع عن ثورة 26 سبتمبر بكل الإمكانيات المتاحة وبمختلف الطرق، كما أنه ناقش إمكانية الثورة في الجنوب بعد أن توفر له أهم ظرف موضوعي لذلك، وعقب الاجتماع تحرك عدد كبير من الفدائيين مع إخوانهم من الجنوب للدفاع عن الجمهورية الفتية.
تأثر علي عنتر بالشهيد المناضل (مساعد علي) قائد انتفاضة 56 ضد الاستعمار البريطاني، وكان أصغرَ فردٍ في المجاميع المقاتلة، ولكنه كان أكثرهم حماسًا وشجاعة وذكاء، ولقد كان لانتفاضة 56 أثرها البالغ في تفتق الحسّ الوطني لديه، ولكنه لم يتمكن حينها من المشاركة فيها بحكم صغر سنه وعدم توفر السلاح، الأمر الذي دفع به إلى حمل عصا غليظة اتجه بها صوب ساحة المعركة التي دارت في قرية (الجليلة) وقرية (نعيمة)، وتحت إلحاحِه وعنادِه حصل على بندقية قديمة نوع (صابة) وهي التي منحته حق المشاركة مع مجموعة فدائية مسلحة وضعت كمينًا لدورية بريطانية في منطقة (الضالع) وقد استمرت الاشتباكات لمدة أربعة أيام متتالية انسحب بعدها المقاومون بحكم عدم التكافؤ، إلا أن (عنتر) بقي في مكانه، وعندما أفرغ آخر طلقة وتمكن من اللحاق برفاقه، انتقدوه بشدة، فقال مدافعًا عن نفسه: (كيف انسحب وانا ما اشفيت غليلي، وهذي أول مرة يتحقق فيها أملي الذي تمنيته من زمان في أن تكون لي بندقية أقاتل بها الاستعمار وعملاءه).
ولكن أمنية عنتر بامتلاك بندقية اتسعت بعد ذلك إلى الحد الذي ينظر به إلى مولوده الأول "جهاد" ويخاطبه قائلًا: (ما أجملك يا جهاد، لقد صار طولك بطول القذيفة، ياااه ليتك كنت قذيفة (البلانسيد) من أجل أرمي بها قصر الأمير).
وبعد هذه المعركة اضطر رجال الانتفاضة للمغادرة إلى مدينة (قعطبة) التي جعلوا منها محطة انطلاق لعملياتهم العسكرية ضد المستعمرين وعملائهم، وفي إحدى المرات قام فيها علي عنتر على رأس فرقة فدائية بمهاجمة موقع الضابط السياسي البريطاني في منطقة (الصفراء) وأظهر خلالها شجاعة نادرة، حيث أصر على إطلاق النيران على الموقع من قرب وتمكن مع رفاقه من إصابة عدد من المستعمرين ثم انسحبوا بنجاح، حينها قال الشهيد (راجح لبوزة) مفاخرًا: (لو أننا نملك مئة من أمثال "علي عنتر" لدمرنا كل معسكرات بريطانيا).
وبعد استكمال المجاميع الفدائية تدريباتها في (تعز) بدأ الاستعداد للعودة لتفجير جبهة (الضالع) ومع بداية الدقائق الأولى من الساعة الثانية بعد منتصف الليل وصبيحة 24 يوليو 1964م كانت الطلقات الأولى لأول هجوم على معسكر الإنجليز ومقر الضابط السياسي في الضالع، ونسف محطة تموين القوات البريطانية بالمياه، وبهذا تم الإعلان عن فتح ثاني جبهة بعد جبهة (ردفان) دشن بها مرحلة جديدة من حرب العصابات المنظمة، التي لاتعرف التوقف أو التهدئة أو الرحمة، ولا تعرف حدودًا للزمان والمكان ولا حصرًا للطرق والأساليب.
وفي صبيحة 22 يونيو 1967م شهدت (الضالع) أكبر وأعنف مسيرة جماهيرية، ومن على متن إحدى الدبابات البريطانية كان عنتر يخاطب الجماهير: (أيها الرفاق.. تحقق النصر.. وتحررت منطقة الضالع من المستعمرين وهو الانتصار الذي صنعته هذه الجماهير الفقيرة بفضل تضحياتها الكبيرة من أجل الحرية والاستقلال).
وفي سبتمبر بدأت مسيرة التحرك نحو (عدن) عبر عدة جبهات حيث وصل إلى (البريقة) في نوفمبر ليحتفل مع الشعب كله بعيد الاستقلال في 30 نوفمبر 1967م.
كان علي عنتر ضمن من لقوا حتفهم في الصراع الدامي المعروف بأحداث الـ13 من يناير 1986م.